بدء التاريخ الهجري
وفيما بعد ذلك، أبان (حكم عمر) أشار (الإمام أمير المؤمنين عليه السلام) بأن يكون مبدأ تاريخ الإسلام هجرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). فجعلوه أول محرم تلك السنة، باعتبار أن محرم أول السنة.
وكان دخول الرسول في (المدينة) يقرر القسم الثالث، من حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، التي انقضى شطر منها قبل البعثة، كانت مدتها (أربعين سنة) وانقضى الشطر الثاني، بعد المبعث وكان قدره (ثلاث عشرة سنة) وهذا بدء دخوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الشطر الثالث الذي شاء الله تعالى أن يدوم (عشر سنوات) ليكون مجموع عمره المبارك (ثلاث وستين سنة).
مهمة الرسول في المدينة
وقد كانت مهمة الرسول في (المدينة) عسيرة جداً فكان اللازم عليه أن:
1 ـ يبلغ دين الإسلام كلاماً غير منقوص.
2 ـ وأن يجعل نظاماً للحياة يشمل جميع جوانبها.
3 ـ وأن ينظم دولة راسخة الأركان قويمة الأطراف.
4 ـ وأن يكوّن أمة مسلمة لها سماتها وميزاتها.
ولم تكن (المدينة) خالصة للرسول، يعمل ما يشاء بلا منازع ولا مناوئ.
أ ـ فمن ناحية كانت اليهود تلقى المشاغبات والفتن.
ب ـ ومن جهة كانت النصارى تناوئ الدعوة الجديدة.
ج ـ أما المشركون فكانوا يرون في الدين الجديد خطراً عليهم.
د ـ ومن ناحية رابعة كان المنافقون الذين تستروا بستار الإسلام خوفاً أو طمعاً، وكانوا يتربصون بالنبي الدوائر.
هـ ـ هذا مع الغض عن المخاوف التي كانت تساور المسلمين من دولتي (فارس) و (الروم).
كان الاستقبال حافلاً يوم قدوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة.
ولما وصل الرسول إلى (المدينة) لم ينزلها، بل بقى خارجها ينتظر قدوم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام حيث كان الرسول أباته في فراشه في مكة، وأمره بأن يرجع الودائع إلى أصحابها بعد خروج الرسول.
فلحق (علي) بالرسول، بعد ثلاثة أيام.. ونزل (عليّ عليه السلام) حيث نزل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من ذي قبل في دار (كلثوم).
فأقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هناك، يوم الاثنين، والثلاثاء والأربعاء.
وأسس هناك (مسجد قبا).
ثم ركب ناقته، وتوجه إلى (المدينة).
فجاءه جماعة من بني سالم وقالوا: يا رسول الله، أقم عندنا في العدد والعدة والمنعة!
فقال: خلوا سبيلها، فإنها مأمورة ـ يريد (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك عدم التعرض للناقة، حتى تبرك هي بنفسها ـ ثم.. تلقى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، في طريقه، جماعة من بني بياضة، وطلبوا نزوله، وأجاب بمثل ذلك الجواب وتلقاه (صلى الله عليه وآله وسلم) في الطريق جماعة آخرون من بني ساعدة، وطلبوا نزوله.. وتلقاه بعدهم أناس من بني الحارث.. حتى إذا أتت الناقة إلى ما يقرب من دار بني مالك، بركت على (باب مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم))، وهو حينئذ (مربد) لغلامين يتيمين.. فلم ينزل رسول الله حتى إذا قامت من مكانها، وبركت، مرة ثانية نزل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من عليها.
واحتمل (أبو أيوب) رحل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ووضعه في بيته، ونزل الرسول هناك.
وبقى في بيت (أبي أيوب) حتى إذا تم البناء الذي بني له بجوار المسجد، فانتقل إليه...
بناء مسجد المدينة
إن الرسول ـ بطبيعة الحال ـ يحتاج إلى محل لإقامة الصلاة، ووعظ الناس، وبث الأوامر فيهم، والفصل بين الخصومات.
ولا أحسن لذلك كله من (المسجد) ولذا أمر الرسول بذلك، فانتخب له الموضع الذي بركت فيه ناقته، فاشتراه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وسويت أرضه وكانت مساحته ـ كما يذكره البعض ـ خمسة وثلاثون ذراعاً في ثلاثين (35 × 30 = 1050)
فأخذ الرسول يعمل مع سائر أصحابه في هذا الأمر حتى تم البناء، وكانت جدرانه قدر ذراع ثم أضيف عليها.
وفي ناحية من (المسجد) أقيمت ظلة من الجريد على قوائم من جذوع النخل، وسميت بـ (الصفة) يجتمع فيها المسلمون الذين لا مأوى لهم.
وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلي في المسجد بأصحابه ويتكئ على جذع نخل إذا أراد الخطابة، ثم صنع له (منبر) فكان يرقيه وقت الخطبة والإرشاد.
وقد كان يجلس في المسجد في حلقة مستديرة لا يميز صدرها من ذيلها، فكان الناس إذا جاءوا لم يعرفوا الرسول، فيقولون: أيكم محمد؟ فالتمس منه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعض الصحابة أن يبني له شبه دكة ليكون معلوماً لدى الجائي، فلا يحير في أمره، فقبل (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك.
وكان يصلي بأصحابه الصلوات الخمس، في المسجد في أوقات متفرقة، أو يجمع بين الصلاتين الظهر والعصر والمغرب والعشاء.
وضع للمهاجرين الذين هاجروا معه بيوتاً حول المسجد، كانت تفتح أبوابها في المسجد، حتى أمره الله تعالى بغلق تلك الأبواب، فأغلقها، إلا باب بيت (أمير المؤمنين عليه السلام).
وقد كان (المسجد) المركز القيادي الإسلامي في جميع الشؤون الدينية والدنيوية.
هذا (المسجد) ليس الآن على قدره الأول، بل وسّع مراراً..
انقسام الناس أمام الدعوة الإسلامية
انقسم الناس أمام الدعوة الإسلامية، إلى أقسام ثلاثة: المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله حقيقة وواقعاً، والكافرين الذين أظهروا الكفر والشقاق.. والمنافقين الذين أبطنوا الكفر، وأظهروا الإسلام.
وفي (المدينة) ظهرت هذه العناصر الثلاث بأجلى مظاهرها.. واستمات كل صنف للإسلام أو عليه.
فالمؤمنون أخذوا يرصون صفوفهم، بقيادة الرسول وينظمون أمر دينهم ودنياهم، في جو من الحرية والانطلاق والاختيار.
والكافرون أخذوا يخشون الدعوة الإسلامية، فيجهزون قواهم للوثوب على الدين الجديد مهما كلف الأمر.
والمنافقون كانوا مذبذبين بين ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، يريدون أن يرضوا الرسول وأصحابه, في الملأ بألسنتهم، وإذا خلوا إلى شياطينهم، قالوا: إنا معكم إنما نحن مستهزئون، ويكيدون للإسلام في الخفاء.
ومن جرّاء انقسام الملتفين حول راية الإسلام إلى مؤمن ومنافق، حدثت أحداث جسام، وأمور مهمة، غيّرت مجرى التاريخ الإسلامي تغييراً كثيراً.